houari | التاريخ: الثلاثاء, 2016-10-25, 08:10:30 | رسالة # 1 |
 عضو نشيط
مجموعة: المدراء
رسائل: 49
حالة: Offline
| في إعجاز القرآن ـ الوجه الأول [ قال القاضي أبو الفضل رحمه الله ] اعلم ـ وفقنا الله و إياك ـ أن كتاب الله العزيز منطو على وجوه من الإعجاز كثيرة ، و تحصيلها من جهة ضبط أنواعها في أربعة وجوه : أولها : حسن تأليفة ، و التئام كلمه ، و فصاحته ، و وجوه إيجازه ، و بلاغته الخارقة عادة العرب ، و ذلك أنهم كانوا أرباب هذا الشأن ، و فرسان الكلام ، قد خصوا من البلاغة و الحكم بما لم يخص به غيرهم من الأمم ، و أوتوا من ذرابة اللسان ما لم يؤت إنسان ، و من فضل الخطاب ما يقيد الألباب جعل الله لهم ذلك طبعاً و خلقة ، و فيهم غريزة و قوة ، يأتون منه على البديهة بالعجب ، و يدلون به إلى كل سبب ، فيخطبون بديهاً في المقامات ، و شديد الخطب ، و يرتجزون به بين الطعن و الضرب ، و يمدحون و يقدحون ، و يتوسلون و يتوصلون ، و يرفعون و يضعون ، فيأتون من ذلك بالسحر الحلال ، و يطوقون من أوصافهم أجمل من سمط اللآل ، فيخدعون الألباب ، و يذللون الصعاب ، و يذهبون الإحن ، و يهيجون الدمن ، و يجرئون الجبان ، و يبسطون يد الجعد البنان ، و يصيرون الناقص كاملاً و يتركون النبيه خاملاً . منهم البدوي ذو اللفظ الجزل ، و الق ول الفصل ، والكلام الفخم ، و الطبع الجوهري ، و المنزع القوي . و منهم الحضري ذو البلاغة البارعة ، والألفاظ الناصعة ، و الكلمات الجامعة ، و الطبع السهل ، و التصرف في القول القليل الكفلة ، الكثير الرونق ، الرقيق الحاشية . و كلا البابين لهما في البلاغة الحجة البالغة ، و القوة الدامغة ، و القدح الفالج ،و المهيع الناهج ، ، لايشكون أن الكلام طوع مزادهم ، و البلاغةملك قيادهم ، قد حووا فنونها واستنبطوا عيونها ، و دخلوا من كل باب من أبوابها ، و علوا صرحاً لبلوغ أسبابها ، فقالوا في الخطير و المهين ، و تفننوا في الغث و السمين ، و تقاولوا في القل و الكثر ، و تساجلوا في النظم و النثر ، فما راعهم إلا رسول كريم ، بكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد ، أحمكت آياته ، و فصلت كلماته ، و بهرت بلاغته العقول ، و ظهرت فصاحته على كل مقول ، و تظافر إيجازه و إعجازه ، و تظاهرت حقيقته و مجازه ، و تبارت في الحسن مطالعه و مقاطعه [ 91 ] ، و حوت كل البيان جوامعه و بدائعه ، و اعتدل مع إيجازه حسن نظمه ، و انطبق على كثرة فوائده مختار لفظه ، وهم أفسح ما كانوا في الباب مجالاً ، و أشهر في الخطابة رجالاً ، و أكثر في السجع و الشعر سجالاً ، و أوسع في الغريب و اللغة مقالاً ، بلغتهم التي بها يتحاورون ، و منازعهم التي عنها يتناضلون ، صارخاً بهم في كل حين ، و مقرعاً لهم بضعاً و عشرين عاماً على رؤوس الملأ أجمعين : أم يقولون افتراه قل فاتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين [ سورة يونس / 10 ، الآية : 38 ] . وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فاتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين * فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا . [ سورة البقرة / 2 ، الآية : 23 ، 24 ] . و قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا [ سورة الإسراء / 17 ، الآية : 88 ] . و قل فاتوا بعشر سور مثله مفتريات . و ذلك أن المفتري أسهل و وضع الباطل و المختلق على الاختيار أقرب ، و اللفظ إذا تبع المعنى الصحيح كان أصعب ، و لهذا قيل : فلان يكتب كما يقال له ، و فلا يكتب كما يريد . و للأول على الثاني فضل ، و بينهما شأو بعيد . فلم يزل يقرعهم صلى الله عليه و سلم أشد التقريع ، و يوبخهم غاية التوبيخ ، و يسفه أحلامهم ، و يحط أعلامهم ، و يشتت نظامهم ، و يذم آلهتهم و آباءهم ، و يستبيح إرضهم و ديارهم و أموالهم ، و هم في كل هذا ناكصون عن معارضتيه ، محجمون عن مماثلته ، يخادعون أنفسهم بالتشغيب و التكذيب ، و الإغراء بالإفتراء ، و قولهم : إن هذا إلا سحر يؤثر ، و سحر مستمر ، و إفك افتراه ، و أساطير الأولين ، و المباهتة و الرضا بالدنية ، كقولهم : قلوبنا غلف [ سورة البقرة / 2 ، الآية : ( 88 ) . و سورة النساء / 4 ، الآية : 155 ] . و في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب . و لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون [ سورة فصلت / 41 ، الآية : 26 ] . و الادعاء مع العجز بقولهم : لو نشاء لقلنا مثل هذا [ سورة الأنفال / 8 ، الآية : 31 ] . و قد قال لهم الله : و لن تفعلوا ، فما فعلوا و لا قدروا . و من تعاطى ذلك من سخفائهم ـ كمسيلمة ـ كشف عواره جميعهم ، و سلبهم الله ما ألفوه ، من فصيح كلامهم ، و إلا فلم يخف على أهل الميز منهم أنه ليس من نمط فصاحتهم ، و لا جنس بلاغتهم ، بل و لوا عنه مدبرين ، و أتوا مذعنين من بين مهتد و بين مفتون . و لهذا لما سمع ال وليد بن مغيرة من النبي صلى الله عليه و سلم : إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون [ سورة النحل / 16 ، الآية : 90 ] . قال : و الله ، إن له لحلاوة ، و إن عليه لطلاوةً ، و إن أسفله لمغدق ، و إن أعلاه لمثمر ، ما يقول هذا بشر . و ذكر أبو عبيد أن أعرابياً سمع رجلاً يقرأ : فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين فسجد ، و قال : سجدت لفصاحته . و سمع آخر رجلاً يقرأ : فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا [ سورة يوسف / 12 ، الآية : 80 ] . فقال : أشهد أن مخلوقاً لا يقدر على مثل هذا الكلام . و حكي أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ كان يوماً نائماً في المسجد فإذا هو بقائم على رأسه يتشهد شهادة الحق ، و استخبره ، فأعلمه أنه من بطارقة الروم ممن يحسن كلام العرب و غيرها ، و أنه سمع رجلاً من أسرى المسلمين [ 92 ] يقرأ آية من كتابكم فتأملتها ، فإذا [ هي ] قد جمع فيها ما أنزل على عيسى ابن مريم من أحوال الدنيا و الآخرة ، و هي قوله تعالى : ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون [ سورة النور / 24 ، الآية : 52 ] . و حكى الأصمعي أنه سمع كلام جارية ، فقال لها : قاتلك الله ما أفصحك ! فقالت : أو يعد هذا فصاحةً بعد قول الله تعالى : وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين ، فجمع في آية واحدة بين أمرين و نهيين ، و خبرين ، و بشارتين . فهذا نوع من إعجازه منفرد بذاته ، غير مضاف إلى غيره على التحقيق و الصحيح من القولين . و كون القرآن من قبل النبي صلى الله عليه و سلم ، و أنه أتى به ـ معلوم ضرورة ، و كونه ـ عليه السلام ـ متحدياً بع معلوم ضرورة ، و عجز العرب عن الإتيان بع معلوم ضرورة ، و كونه في فصاحته خارقاً للعادة معلوم ضرورة للعالمين بالفصاحة و وجوه البلاغة ، و سبيل من ليس من أهلها علم ذلك بعجز المفكرين من أهلها عن معارضته و اعتراف المفسرين بإعجاز بلاغته . و أنت إذا تأملت قوله تعالى : ولكم في القصاص حياة [ سورة البقرة / 2 ، الآية : 179 ] . و قوله : ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب . و قوله : ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم . و قوله : وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين [ سورة هود / 11 ، الآية : 44 ] . و قوله : فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا [ سورة العنكبوت / 29 ، الآية : 40 ] . و أشباهها من الآي ، بل أكثر القرآن حققت ما بينته من إيجار ألفاظها ، و كثرة معانيه ، و ديباجة عبارتها ، و حسن تأليف حروفها ، و تلاؤم كلمها ، و أن تحت كل لفظة منها جملاً كثيرة ، و فصولاً جمة ، و علوماً زواخر ، ملئت الدواوين من بعض ما استفيد منها ، و كثرت المقالات في المستنبطات عنها . ثم هو في سرده القصص الطوال ، و أخبار القرون السوالف ، التي يضعف في عادة الفصحاء عندها الكلام ، و يذهب ماء البيان ـ آية لمتأمله ، من ربط الكلام بعضه ببعض ، و التئام سرده ، و تناصف وجوهه ، كقصة يوسف على طولها . ثم إذا ترددت قصصه اختلفت العبارات عنها على كثرة ترددها حتى تكاد كل واحدة تنسي في البيان صاحبتها ، و تناصف في الحسن وجه مقابلتها ، و لا نفور للنفوس من ترديدها ، و لا معاداة لمعادها .
في إعجاز القرآن ـ الوجه الثاني الوجه الثاني من إعجازه صورة نظمه العجيب ، و الأسلوب الغريب المخالف لأساليب كلام العرب و مناهج نظمها و نثرها الذي جاء عليه ، و وقفت مقاطع آية ، و انتهت فواصل كلماته إليه ، و لم يوجد قبله و لا بعده نظير له ، و لا استطاع أحد مماثلة شيء منه ، بل حارت فيه عقولهم ، و تدلهت دونه أحلامهم ، و لم يهتدوا إلى مثله في جنس كلامهم من نثر أو نظم ، أو سجع أو رجز ، أو شعر . و لما سمع كلامه صلى الله عليه و سلم الوليد بن المغيرة ، و قرأ عليه القرآن ـ رق ، فجاءه أبو جهل منكراً عليه [ 93 ] ـ قال : و الله ما منكم أحد أعلم بالأشعار مني ، و الله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا . و في خبره الآخر ـ حين جمع قريشً عند حضور الموسم ، و قال : إن وفود العرب ترد فأجمعوا فيه رأياً ، لا يكذب بعضكم بعضاً ، فقالوا : نقول كاهن . قال : و الله ما هو بكاهن . ما هو بزمزمته و لا سجعه . قالوا : مجنون : قال : ما ههو بمجنون ، و لا بخنقه و لا وسوسته . قالوا : فنقول شاعر . قال : ماهو بشاعر . قد عرفنا الشعر كله ، رجزه ، و هزجه ، و قريضه ، و مبسوطه ، و مقبوضه ، ما هو بشاعر . قالوا : فنقول ساحر . قال : ما هو بساحر ، و لا نفثه و لا عقده . قالوا : فما نقول : قال : ما أنتم بقائلين من هذا شيئاً ، إلا و أنا أعرف أنه باطل ، و إن أقرب القول أنه ساحر ، فإنه سحر يفرق بين المرء و ابنه ، و المرء و أخيه ، و المرء وزوجه ، و المرء و عشيرته . فتفرقوا و جلسوا على السبل يحذرون الناس ، فأنزل الله تعالى في الوليد : ذرني ومن خلقت وحيدا * وجعلت له مالا ممدودا * وبنين شهودا * ومهدت له تمهيدا * ثم يطمع أن أزيد * كلا إنه كان لآياتنا عنيدا * سأرهقه صعودا * إنه فكر وقدر * فقتل كيف قدر * ثم قتل كيف قدر * ثم نظر * ثم عبس وبسر * ثم أدبر واستكبر * فقال إن هذا إلا سحر يؤثر [ سورة المدثر / 74 ، الآية 11 ، 24 ] . و قال عتبة بن ربيعة حين سمع القرآن : يا قوم ، قد علمتم أني لم أترك شيئاً إلا و قد علمته و قرأته و قلته ، و الله لقد سمعت قولاً و الله ما سمعت مثله قط ، ما هو بالشعر ، ولا بالسحر ، و لا بالكهانة . و قال النضر بن الحارث نحوه . و في حديث إسلام أبو ذر و وصف أخاه أنيساً ، فقال : و الله ما سمعت بأشعر من أخي أنيس ، لقد ناقض اثني عشر شاعراً في الجاهلية ، أنا أحدهم ، و إنه انطلق إلى مكة ، و جاء إ لى أبي ذر بخبر النبي صلى الله عليه و سلم . قلت : فما يقول الناس ؟ قال : يقولون : شاعر : كاهن ، ساحر ، لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم ، و لقد وضعته على أقراء الشعر فلم يلتئم ، و ما يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر ، و إنه لصادق ، و إنهم لكاذبون . و الأخبار في هذا صحيحة كثيرة . و الإعجاز بكل واحد من النوعين : الإيجاز و البلاغة بذاتها ، أو الأسلوب الغريب بذاته ، كل واحد منهما نوع إعجازه على التحقيق ، لم تقدر العرب على الإتيان بواحد منهما ، إذا كل واحد خارج عن قدرتها ، مباين لفصاحتها و كلامها ، و إلى هذا ذهب غير واحد من أئمة المحققين . و ذهب بعض [ المحققين ] المقتدي بهم إلى أن الإعجاز في مجموع البلاغة و الأسلوب ، و أتى على ذلك بقول تمجه الأسماع ، و تنفر منه القلوب . و الصحيح ما قدمناه ، و العلم بهذا كله ضرورة قطعاً . و من تفنن في علوم البلاغة ، و أرهف خاطره و لسانه أدب هذه الصناعة لم يخف عليه ما قلناه . و قد اختلف أئمة أهل السنة في وجه عجزهم عنه ، فأكثرهم يقول : إنه ما جمع في قوة جزالته ، و نصاعة ألفاظه ، و حسن نظمه ، و إيجازه ، و بديع تأليفه و أسلوبه لا يصح أن يكون في مقدور البش ر ، و أنه من باب الخوارق الممتنعة عن إقدار الخلق عليها ، كإحياء الموتى ، و قلب العصا ، و تسبيح الحصى . و ذهب الشيخ أبو الحسن إلى أن مما يمكن أن يدخل مثله تحت مقدور البشر ، و يقدرهم الله عليه ، و لكنه لم يكن هذا و لا يكون ، فمنهم الله هذ1 [ 94 ] ، و عجزهم عنه . و قال به جماعة من أصحابه . و على الطريقين فعجز العرب عنه ثابت ، و إقامة الحجة عليهم بما يصح أن يكون في مقدور البشر ، و تحديهم بأن يأتوا بمثله ـ قاطع ، و هو أبلغ في التعجيز ، و أحرى بالتقريع ، و الإحتجاج بمجيء بشر مثلهم بشيء ليس من قدرة البشر لا زم ، و هو أبهر آية ، و أقمع دلالة . و على كل حال فما أتوا في ذلك بمقال ، بل صبروا على الجلاء ، و القتل ، و تجرعوا كاسات الصغار و الذل ، و كانوا من شموخ الآنف ، و إباية الضيم ، بحيث لا يؤثرون ذلك اختياراً ، و لا يرضونه إلا اضطراراً ، و إلا فالمعارضة لو كانت من قدرهم ، الشغل بها أهون عليهم و أسرع بالنجح و قطع العذر و إفحام الخصم لديهم ، و هم ممن لهم قدرة على الكلام ، و قدوة في المعرفة به لجميع الأنام ، و ما منهم إلا من جهد جهده ، و استنفد ما عنده في إخفاء ظهوره ، و إطفاء نوره ، فما جلوا في ذلك خبيئةً من بنات شفاههم ، و لا أتوا بنطفة من معين مياههم ، مع طول الأمد ، و كثرة العدد ، و تظاهر الوالد و ما ولد ، بل أبلسوا فما نبسوا ، و منعوا فانقطعوا ، فهذان نوعان من إعجازه .
في إعجاز القرآن ـ الوجه الثالث الوجه الثالث من الإعجاز ما انطوى عليه من الإخبار بالمغيبات ، و ما لم يكن و لم يقع ، فوجد ، كما ورد ، و على الوجه الذي أخبر به ، كقوله تعالى : لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين [ سورة الفتح / 48 ، الآية : 27 ] . و قوله تعالى : وهم من بعد غلبهم سيغلبون [ سورة الروم / 30 ، الآية : 3 ] . و قوله : ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون [ سورة التوبة / 9 ، الآية : 33 ] . و قوله : وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون [ سورة النور / 24 ، الآية : 55 ] . و قوله : إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا * فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا [ سورة النصر / 110 ، الآية : 1 ، 3 ] . فكان جميع هذا ، كما قال ، فغلبت الروم فارس في بضع سنين ، و دخل الناس في الإسلام أفواجاً ، فما مات صلى الله عليه و سلم و في بلاد العرب كلها موضع لم يدخ له الإسلام . و استخلف الله المؤمنين في الأرض ، و مكن فيها دينهم ، و ملكهم إياها من أقصى المشارق إلى أقصى المغارب ، كما قال عليه السلام : زويت إلى الأرض ، فأريت مشارقها و مغاربها ، و سيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها . و قوله : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ، فكان كذلك ، لا يكاد يعد من سعى في تغييره و تبديل محكمه من الملحدة و المعطلة ، لا سيما القرامطة ، فأجمعوا كيدهم و حولهم و قوتهم ، اليوم نيفاً على خمسمائة عام ، فما قدروا على إطفاء شيء من نوره ، و لا تغيير كلمة من كلامه ، و لا تشكيك المسلمين في حرف من حروفه ، و الحمد لله . و منه قوله : سيهزم الجمع ويولون الدبر [ سورة القمر / 54 ، الآية : 45 ] . و قوله : قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين [ سورة التوبة / 9 ، الآية : 14 ] . و قوله : هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون [ سورة التوبة / 9 ، الآية : 33 ] . 0و قوله: لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون . فكان كل ذلك . و ما فيه من كشف أسرار المنافقين و اليهود ، و مقالهم و كذبهم في حلفهم ، و تقريعهم بذلك ، كقوله : ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول . و قوله : يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور . و قوله ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم [ سورة المائدة / 5 الآية : 41 ] . و قوله : من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين [95] [ سورة النساء / 4 ، الآية : 46 ] . و قد قال مبدياً ، ما قدره الله واعتقده المؤمنين يوم بدر : وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم سورة الأنفال /8 ، الآية : 7 ] . و منه قوله تعالى : إنا كفيناك المستهزئين [ سورة الحجر / 15 ، الآية : 95 ] . و لما نزلت بشر النبي صلى الله عليه و سلم نذلك أصحابه بأن الله كفاه إياهم ، و كان المستهزئون نفراً بمكة ينفرون الناس عنه و يؤذونه فهلكوا . و قوله والله يعصمك من الناس ، فكان كذلك على كثرة من رام ضره ، و قصد قتله ، و الأخبار بذلك معروفة صحيحة .
في إعجاز القرآن ـ الوجه الرابع الوجه الرابع ما أنبأ به من أخبار القرون السالفة ، و الأمم البائدة ، و الشرائع الداثرة ، مما كان لا يعلم منه القصة الواحدة إلا الفذ من أخبار أهل الكتاب الذي قطع عمره في تعلم ذلك ، فيورده النبي صلى الله عليه و سلم على وجهه ، و يأتي به على نصه ، فيعترف العالم بذلك بصحته و صدقه ، و أن مثله لم ينله بتعليم . و قد علموا أنه صلى الله عليه و سلم أمي لا يقرأ و لا يكتب ، و لا اشتغل بمدارسة و لا مثافنة ، و لم يغب عنهم ، و لا جهل حاله أحد منهم . و قدكان أهل الكتاب كثيراًما يسألونه ـ صلى الله عليه و سلم ـ عن هذا ، فينزل عليه من القرآن ما يتلو عليهم منه ذكراً ، كقصص الأنبياء مع قومهم ، و خبر موسى و الخضر ، و يوسف و إخوته ، و أصحاب الكهف ، و ذي القرنين، و لقمان و ابنه ، و أشباه ذلك من الأنبياء [و القصص] ، و بدء الخلق و ما في التوراة ، و الإنجيل ، و الزبور ، و صحف إبراهيم و موسى ، مما صدقه فيه العلماء بها ، و لم يقدروا على تكذيب ما ذكر منها ، بل أذعنوا لذلك ، فمن موفق آمن بما سبق له من خير ، و من شقي معاند حاسد ، و مع هذا لم يحك عن واحد من النصارى و اليهود على شدة عداوتهم له ، و حرصهم على تكذيبه ، و طول احتجاجه عليهم بما في كتبهم ، و تقريعهم بما انطوت عليه مصاحفهم ، و كثرة سؤالهم له صلى الله عليه و سلم ، و تعنيتهم إياه ـ عن أخبار أنبيائهم ، و أسرار علومهم ، و مستودعات سيرهم ، و إعلامه لهم بمكتوم شرائعهم و مضمنات كتبهم ، مثل سؤالهم عن الروح ، و ذي القرنين ، و أصحاب الكهف ، و عيسى ، و حكم الرجم و ما حرم إسرائيل على نفسه ، و ما حرم عليهم من الأنعام ، و من طيبات أحلت لهم فحرمت عليهم ببغيهم . و قوله : ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار [ سورة الفتح / 48 ، الآية : 29 ] . و غير ذلك من أمورهم التي نزل فيها القرآن ، فأجابهم و عرفهم بما أوحى إليه من ذلك أنه أنكر ذلك أو كذبه ، بل أكثرهم صرح بصحة نبوته ، و صدق مقالته ، و اعترف بعناده و حسدهم إياه ، كأهل بجران ، و ابن صوريا ، و ابني أخطب و غيرهم . و من باهت في ذلك بعض المباهتة ، و ادعى أن فيما عندهم من ذلك لما حكاه مخالفةً ـ دعي إلى إقامة حجته ، و كشف دعوته ، فقيل له : قل فاتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين * فم ن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون . فقرع و وبخ ، و دعا إلى إحضار ممكن غير ممتنع ، فمن معترف بما جحده ، و متواقح يلقي على فضيحته من كتابه يده . و لم يؤثر أن واحداً منهم أظهر خلاف قوله من كتبه ، و لا أبدى صحيحاً و لا سقيماً من صفحه ، قال الله تعالى : يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين * يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم [ سورة المائدة / 5 ، الآية : 15 ، 16 ] .
هذه الوجوه الأربعة من الإعجاز لا نزاع فيها و لا مرية هذه الوجوه الأربعة من إعجازه بينة لا نزاع فيها و لا مرية . و من الوجوه البينة في إعجازه من غير هذه الوجوه آي وردت بتعجيز قوم في قضايا ، و إعلامهم أنهم لا يفعلونها فما فعلوا و لا قدروا على ذلك ، كقوله لليهود : قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين * ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم [ سورة البقرة / 2 ، الآية : 94 ، 95 ] . قال أبو إسحاق الزجاج : في هذه الآية أعظم حجة و أظهر دلالة على صحة الرسالة ، لأنه قال : فتمنوا الموت ، و أعلمهم أنهم لن يتمنوه أبداً ، فلم يتمنه واحداً منهم . و عن النبي صلى الله عليه و سلم : و الذي نفسي بيده لا يقولها رجل منهم إلا غص بريقه يعني يموت مكانه . فصرفهم الله عن تمنيه و جزعهم ، ليظهر صدق رسوله ، و صحة ما أوحي إليه ، إذا لم يتمنه أحد منهم ، و كانوا على تكذيبه أحرص لو قدروا ، و لكن الله يفعل ما يريد ، فظهرت بذلك معجزته ، و بانت حجته . قال أبو محمد الأصيلي : من أعجب أمرهم أنه لا يوجد منهم جماعة ، و لا واحد ، من يوم أمر الله بذلك نبيه ـ يقدم عليه ، و لا يجيب إليه . و هذا موجود مشاهد لمن أراد أن يمتحنه منهم . و كذلك آية المباهلة من هذا المعنى ، حيث وفد عليه أساقفة نجران و أبوا الإسلام ، فأنزل الله تعالى عليه آية المباهلة بقوله : فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين [ سورة آل عمران / 3 ، الآية : 61 ] . فامتنعوا منها ، و رضوا بأداء الجزية ، و ذلك أن [ العاقب ] عظيمهم قال لهم : قد علمتم أنه نبي ، و أنه ما لاعن قوماً نبي قط فبقي كبيرهم و لا صغيرهم . و مثله قوله : وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فاتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين * فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا . فأخبرهم أنهم لا يفعلون ، كما كان . و هذه الآية أدخل في باب الإخبار عن الغيب ، و لكن فيها من التعجيز ما في التي قبلها .
|
|
| |